Sunday, January 24, 2010

النوارس

متلألأة أدمعها تروي وجهها اللاهب المغبر ، طفلة جميلة بريئة ألفت أباها بعيدا في يوم حلقت النوارس فيه فوق مدخنة كوخها ، يتلاعب الهواء بشعرها مواسيا ومخاطبا، لقاؤك أباك لن يطول ، والضياء يسابق قطرات الندى يودّ أن يلمس خديها محدثا وماحيا لنظرة الخوف من عينيها الزرقاوتين، صرخت أبي حتى بحّت حنجرتها الصغيرة ، مالذي بقي .. غير كوخها المتواضع على تل بين الشجر، اعتقلت البسمة الوحيدة المتبقية لها، تحمل في يمينها دمية صنعتها لها امها الشهيدة الحامل، نعم قد كانت تنتظر اخا، تلعب معه وودعته قبل اللقاء ...

أخذت خطواتها بالتسارع على طريق حسبته منتهيا، لكنها لم تدر مذ متى قد بدأ ، لم تقفل باب كوخها المتلكئ آملة، ملهوفة .. أخذت تركض نحو الشرق حيث ظنت اباها قد نقل، وضاعت في غابة من أشجار وأشواك، ضلـّت طريقها والجوع يرسم الحزن على محيّـاها ، ودميتها من الحزن تبكي، أبتِ، أين أنت عائلتي أين أنت ؟! بين النداءات الشجية راحت تتراكض يصدعها الصدى فتظنه مجيبها ، وما هي أزمان .. اعتادت حياة الغاب الرحيم ، تأكل ثمرة من هنا وأخرى من هناك ، تسمع خرير جدول ينساب خجلا فتشرب منه ماء الصبر والأمل ، تكمل الطريق شرقا وتغني لدميتها لحنا ً غنته لها أمها.

وجدت أهل قرية فاستغربوا، سألوها : من أين جئت ؟ ردت : أتيت باحثة عن عائلتي التي لم يبق منها الكثير ، قالوا : سبحان الله ! رعاك مدبرا لك الطعام والشراب والرزق فمن دخل غابة كهذه في عمرك هلك ، وآوى أهل القرية بنت الغابة وأكرموا ضيافتها وبقيت لديهم. كبرت ونضجت ولا زالت تذكر الذي اخرجها من كوخها ، احبها أهل القرية جميعا وأحبتهم، وصارت كبنت لهم وهم لها أهل ، لم يسألوها قط ما الذي حدث ..

وفي يوم حلقت فيه النوارس مرة أخرى، واعتقلت بسمة أب آخر من القرية ، يومها باحت بالسر الدفين المرير المتوقد ، قد كان لمن اعتقلت بسمته مكانة في القرية ، فهو لم يكن كأيّ رجل بل هو الحكيم الذي أكتب أهل القرية ، وعلمهم القراءة ، وفقههم في دينهم . لم يصمت أهل القرية ولم يعجبوا بما حصل فالظلم كريه لا يحتمل ، ومرت السنوات مرور الفصول الأربعة ، وكثرت عمليات القتل والسجن دون مبرر، حتى ثارت قرى أخرى وهاجت ولم تصمت ، فكان وقت الإنتقام المؤجل ، حمل الرجال السلاح والزوادة ، وخرجت طفلة الماضي سيدة مداوية ومجاهدة ، واقتتل رجال الحق مع النوارس، أجبن من أجبن مخلوق على وجه المعمورة ، سالت دماء النوارس المحتلين سيلا جارفا ... لكنه للغلّ شاف ، وللنار مطفئ ، حرر من أسر، وأعيد من جرح ، والبطلة الصغيرة لم تدرأن أباها قد افرج عنه، ولما علمت فقد لسانها كلماته . وسألت عن مكان اللقاء ؟ فأجيبت : بموعد ! 

لبست لباس الإنتصار والفرح، حملت دميتها ومفتاح كوخها وقلبها ، اتجهت لرؤية الأب الحاني الذي لم تره منذ وقت طويل ، وصلت مبكرة قليلا لكنّ انتظارها لم يطل . وإذ بصوت باسمها يهتف ! يهز الجبال مزلزلا ، على بعد تلّ لمحته ، فشخص ناظرها .. وتصنم الوقت، دمعة مستعجلة غافلتها .. تروي خدّها فرحا ، وأبوها يتملاها .. يتذكر ليلة قبلها قبل نومها ، ينظر في عينيها ما زالتا متأملتين لامعتين من الدمع ، لم تستطع المزيد من الصبر .. قطعت أفكارها المضطربة .. ركضت بها قدماها .. وأبوها أدرك انها هي ، فطارت به الدنيا فرحا برؤيتها صرخت أبي وتنهدت، وبكت بكاء طال انتظاره على كتفه .. محتضنة إياه تأبى أن تفلته ، وهو يقبل رأسها ، يبكي وتبكي دموعا حلوة ، لا كلمات بينهما بل نظرات ودموع تتحدث ، والرمال من تحتهم تناثرت وتعانقت ، والمطر الذي في الغيمة التي تظلهما بدأ الهطول غزيرا كما الدمع ! ودميتها الحزينة ابتسمت ، ومفتاح بيتها ذهب عنه الصدأ ، عادا الى الكوخ بعد عقود طويلة ، وجدته كما هو على حاله ، وعادت الشمس بأشعتها توقظ المرأة طفلة الماضي الصغيرة مداعبة عينيها .. لتفتحهما .. فتجد اباها في البيت فتفرح كأنما الزمان عاد كما كان .. ولم يعد للنوارس في أرضهما مكان .

القصّة الحائزة على المركز الثاني في المسابقة الوطنية للقصص القصيرة - الأردن 2008 - 2009 النوارس بقلم: مراد الزغل





No comments:

Post a Comment